الدين في العلاقات الدولية
حقيقةً، لا نستطيع أن نلمس البعد الديني في العلاقات الدولية المعاصرة بصورة مباشرة وأساسية يمثلها نظام دولة ما في العلاقات المختلفة عبر سياساتها وتوجهاتها مع مختلف الدول، كما أننا لا نستطيع أيضاً القول إنه ليس للبعد الديني أثر في العلاقات الدولية رغم أنها تعتمد على المصالح والصراعات التي لا تأخذ بالبعد الديني، وما يمكننا قوله هو إن للدين دوراً بسيطاً وهامشياً، مع أنه قد يكون رئيسياً في بعض تفسيرات وتوجهات العلاقات الدولية، وذلك لأن دور الدين يختلف من فترة إلى أخرى ولكنه ليس بمعدوم، وإنْ كان أثره ضعيفاً.
ويمكن النظر إلى الدين من خلال خاصية جغرافية، وذلك في كون الدين الإسلامي سائداً بصورة كبيرة في الشرق، والمسيحية سائدة في الغرب، كما أن حضور البوذية مازال يعبر عن مساحة كبيرة من دول آسيا، وفي المقابل نجد العلمانية واضحة وناجحة في الغرب بسبب التجربة التاريخية مع الكنيسة. فعلى مستوى المنظمات الإقليمية مثلاً نجد الاتحاد الأوروبي يمثل الدين المسيحي بمذاهبه المتعددة، وهو لا يعكس هذه الخاصية الموجودة في دولهِ المكونة له، كما أن منظمة المؤتمر الإسلامي منظمة تجمع الدول الإسلامية، ورغم ضعف دورها فإنها تعكس أوضاع الدول الإسلامية التي تعد أنظمة غالبية دولها شبه علمانية.
ومن باب الجزم أن الإيديولوجية كانت أكثر حضوراً وقوة من الدين في العلاقات الدولية، لأنها أقل تصنيفاً وأكثر تداخلاً جغرافياً، فالاشتراكية والرأسمالية مثلاً جعلتا العالم ودوله المختلفة في الدين واللغة والثقافة والمكان أقل تصنيفاً، وذلك لأنها وجدت في الذوات المختلفة ضالتها التي تبحث عنها دائماً ألا وهي العدالة والدعاء بها فأخلَّت بالتقسيم الديني الجغرافي.
إذا كان الفاعلون من غير الدول كُثْراً اليوم، من شركاتٍ ومؤسسات وأموال وأشخاص ومليشيات وقوميات، فإن الدول ما زالت الفاعل الرئيسي، وفي حضور البعد الديني داخل هوية الدولة نرى الفاتيكان وإيران، منذ الثورة الإسلامية، دولتين ذوَاتيْ بُعد ديني أساسي، على غرار إسرائيل وباكستان اللتين تكوَّنتا من البعد الديني، أما السعودية فنظامها ليس مَلكياً فقط بل نظام ثنائي ملكيٌّ في نسل مؤسس الدولة السعودية الحديثة (أو الثالثة) عبدالعزيز، وفي شرعية المذهب السلفي الوهابي الذي لعب دوراً في تأسيس المملكة وفي شرعية النظام الحاكم وفي التأثير على دور الدولة السعودية داخلياً وخارجياً. وها هي تركيا عبر الحزب الحاكم تأتي وتقدم نفسها في قالب ديني، وإنْ يكن به الكثير من العلمانية. ومن مظاهر الحضور المتنامي للظاهرة الدينية في المجتمعات المعاصرة أنه لم يعد مقتصراً على الشرق الأوسط بقدر ما أصبح يمثل اتجاهاً عالمياً، فهناك مؤشرات على ذلك مثل امتدادات لاهوت التحرير في أميركا اللاتينية بشكل خاص، وبروز ظاهرة الديمقراطيات المسيحية التي تمكنت من احتلال مواقع متقدمة في هرم السلطة في الكثير من الدول الأوروبية المتقدمة، والارتفاع الملحوظ للقاعدة الاجتماعية للكاثوليكية، لاسيما في صفوف الشباب، وبرز هذا بوضوح في وفاة البابا السابق "يوحنا بولس الثاني" وخلافته من طرف البابا الحالي "بندكت السادس عشر"، وهو ما اعتُبر عودة قوية للدين في الحياة العامة للمجتمعات الأوروبية والغربية إجمالاً.
وحتى الولايات المتحدة الأميركية للدين حضورٌ فيها عبر عقائد أصحاب القرار السياسي والاقتصادي في المذهب البروتستانتي في الحزبين الرئيسيين "الجمهوري" و"الديمقراطي"، كما أن اليابان تعيش أشكالاً تجديدية للكونفوشيوسية والبوذية خوفاً من انتشار الأديان السماوية الإسلامية والمسيحية بها.
الخبرة التاريخية للعلاقات الدولية الحديثة والمعاصرة ودور الدين فيها غنية بالأمثلة، فهناك حضور للهوية الدينية، فالمسيحية الكاثوليكية ساهمت بدور كبير في محاربة الشيوعية في أوروبا الشرقية كحالة بولندا، ونرى اليوم أن باكستان ويوغسلافيا وأفغانستان والعراق وإيران تحمل دلالات مهمة في دور الدين والمذاهب والقوميات، فبعد انسحاب بريطانيا، برز النزاع بين الهندوس والمسلمين الذي تجلَّى في ظهور دولة باكستان، لكن هذه الأخيرة أفرزت نزاعاً بين الإسلامية والبنجالية مما نتج عنه بروز دولة بنجلادش، ثم نرى نزاعاً اليوم في باكستان مع تنامي القومية البلوشية في إقليم وزيرستان.
كذلك يمكن التوقف عند النموذج الأفغاني، الذي تصارعت تياراته الدينية مع القوات السوفييتية لترتد بعد الحرب لتتشكل على أسس عرقية وتتصارع فيما بينها، لأن الولاء الأعلى في مواجهة السوفييت كان للدين، بينما في المواجهة الداخلية أصبحت القبلية هي التعبير القوى عن الولاء الأدنى. وفي يوغسلافيا انقسم الصرب والكروات وخاضوا حروباً قاسية ضد بعضهم رغم أنهم مسيحيون. أما العراق بعد الغزو الأميركي، وبعد انهيار النظام الشمولي "البعثي" القومي، فقد أفرز خريطة دينية للشيعة وقومية للأكراد.
ومن فعالية الدين في العلاقات الدولية ما تأتي به المؤسسات الخيرية والإنسانية من بعد ديني في تقديم المساعدات لفئات دينية خاصة ودخول التبشير ونشر الدين، ويكفي أيضاً أن تلك المؤسسات تحمل راية معبرة عن الدين مثل الهلال الأحمر والصليب الأحمر.
وفي السياسات العامة للدول يأتي لنا الدين بوضوح كمظهر من المظاهر مثل حظر الحجاب في فرنسا، وجدلية الحجاب في تركيا ودخوله مؤخراً قصر الرئاسة التركية، فزعزع الهوية العلمانية التركية عبر حزب "العدالة والتنمية"، وفي إيران حضور كبير للدين والعقوبات الدينية كالرجم مثلاً.
وإذا كانت هذه السياسات العامة للدول تحمل دلالاتٍ وأبعاداً دينيةً، فمن المسلَّم به أن ذلك من حق الدول، فبأي حق خرج لنا من يرفع راية باسم الحرية والديمقراطية والليبرالية من الدنمارك وهولندا وعبر شخصيات إعلامية وحكومية تسيء إلى الدين، وما تسيء في الحقيقة إلا لنفسها وعلاقاتها الدولية والتجارية والثقافية، فأي ليبرالية هذه؟ أليس الليبراليون من يقولون إن الدين يدعو للسلام، أما الواقعيون فهم من يرون الصراع في الدين والمذهب والإيدولوجيا؟
أخيراً إلى الدين في السلام والحرب، إذ نرى في العلاقات الدولية النصر المصري في حرب أكتوبر، الذي برز بأنه نصر من الله، والذي ما إن أتت معاهدة السلام المصرية- الإسرائيلية حتى اغتيل الرئيس المصري أنور السادات باسم الدين، كما لحقه وباسم الدين أيضاً إسحاق رابين رئيس الوزراء الإسرائيلي، لأنه كان يتجه إلى السلام مع الفلسطينيين، وهو ما يصطدم مع توجهات المتطرفين اليهود.
الدين وأثره وبُعده موجود في العلاقات الاجتماعية بين الأفراد والشعوب والدول، ويتخذ حضورُه درجاتٍ متفاوتةً من فترة إلى أخرى. وإذا كانت القرون الوسطى قد شهدت الحروب الصليبية، فإن الخطر اليوم ليس في وجود الدين في الحياة الخاصة والعامة داخل الدول وفي علاقاتها الدولية، بل الخطر أن تَرفَع الخلافاتُ بين الجماعات والدول رايات الدين ويتدثَّّر كلٌّ بمذهبه.